من غرفة أخبار المستقبل: كيف يعيد الذكاء الاصطناعي صياغة البوصلة الأخلاقية للإعلام الرقمي؟.

7 Min Read
كتب: م. منصور أمان

في عصر تتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي بشكل غير مسبوق، أصبح الذكاء الاصطناعي قوة دافعة لا يمكن تجاهلها في مختلف جوانب حياتنا.

 

بما في ذلك صناعة الإعلام الرقمي. لم يعد الحديث عن دمج الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار مجرد خيال علمي، بل هو واقع نعيشه يتزايد تأثيره يوماً بعد يوم. هذا التداخل العميق بين الآلة والإنسان في عملية إنتاج ونشر الأخبار يفتح الباب على مصراعيه أمام مجموعة جديدة ومعقدة من التحديات الأخلاقية التي تتطلب وقفة وتأملاً معمقاً.

 

كـ “مهندس الإعلام” – ذلك الدور الذي يجمع بين الفهم التقني الدقيق لمنصات وأدوات الإعلام الرقمي وبين الإدراك الكامل لرسالة الإعلام ومسؤولياته الأخلاقية تجاه الجمهور – أرى أننا في مفترق طرق حاسم يتطلب منا ليس فقط فهم التكنولوجيا كأداة، بل أيضاً توجيهها وتطويعها بما يخدم المصلحة العامة ويحافظ على مصداقية المعلومة في عالم يزداد ضجيجاً وتعقيداً.

 

هذه المقالة تستعرض أبرز هذه التحديات الأخلاقية التي فرضها دخول الذكاء الاصطناعي بقوة على خط الإعلام الرقمي، وننظر إليها من منظور يربط بين عمق الفهم الهندسي لآلية عمل هذه الأنظمة ومتطلبات الممارسة الإعلامية السليمة والمسؤولة، بناءً على ستة محاور أساسية تلامس قلب الأزمة الأخلاقية الراهنة وكيفية التعامل معها من منظور تقني وأخلاقي متكامل. “كل جزء محورين”

 

1. أخلاقيات الخوارزميات: التحيز والمسؤولية في عالم يقرره الكود.

لعل التحدي الأول والأكثر انتشاراً وتأثيراً، والذي يمس صلب تصميم الأنظمة الرقمية نفسها من منظور هندسي، هو “تحيز الخوارزميات” .

نحن كمهندسين متخصصين في هذا المجال، ندرك أن الخوارزميات ليست محايدة بطبيعتها كما قد يتصور البعض؛ فهي تتعلم وتتطور بناءً على كميات هائلة من البيانات التي تُدخل إليها أثناء مرحلة التدريب. وهذه البيانات، للأسف، قد تكون منحازة لأسباب تاريخية، ثقافية، اجتماعية، أو حتى بسبب طريقة جمعها وتصنيفها من البشر أنفسهم.

 

عندما تُستخدم هذه الخوارزميات القوية في سياق حساس مثل صناعة الأخبار الرقمية – لتحديد أي الأخبار سيتم عرضها أولاً في خلاصات المستخدمين، أو لتخصيص المحتوى الإخباري بناءً على اهتمامات مفترضة، أو حتى لتصنيف مصادر الأخبار كموثوقة أو غير موثوقة – فإنها يمكن أن تعزز وجهات نظر معينة، تضخم آراء على حساب أخرى، وتهمش قضايا مهمة دون أن يدري المستخدمون أن هذا الترتيب أو الاختيار تم بواسطة نظام آلي مبني على بيانات قد تكون متحيزة.

 

من هنا ينبع التساؤل الأخلاقي الجوهري الذي يواجهنا كمهندسين وإعلاميين: من المسؤول في النهاية عن هذا التحيز وتأثيره السلبي المحتمل على وعي الجمهور وفهمه للأحداث؟ هل هي مسؤولية المهندس الذي صمم الكود وقام بتدريب النموذج؟ أم مسؤولية الإعلامي أو المحرر الذي يستخدم الأداة المبنية على هذه الخوارزمية دون فهم كامل لكيفية عملها؟ أم مسؤولية المؤسسة الإعلامية التي تبنت هذا النظام كجزء من سير عملها؟

 

من منظور هندسي بحت، تبدأ المسؤولية الأخلاقية من مرحلة تصميم النظام وجمع البيانات وتدريب النماذج. يجب أن يكون لدى المهندسين وعي كامل بإمكانية وجود التحيز ووضع آليات لتقليله قدر الإمكان، بالإضافة إلى تصميم آليات واضحة للمراجعة، والتدقيق المستمر لنتائج الخوارزميات، وتقييم تأثيرها الفعلي على سلوك وتلقي المستخدمين للأخبار. لا يكفي أبداً بناء النظام التقني بكفاءة عملية فحسب، بل يجب بناؤه بوعي أخلاقي عميق وتصميم مسؤول يضع التأثير المجتمعي في مقدمة الأولويات. التحدي هنا يكمن في جعل هذه الأنظمة “أخلاقية التصميم” .

 

2. عصر التزييف العميق والمحتوى المُولّد: هل ما نراه ونسمعه حقيقي؟

ننتقل إلى تحدٍ آخر ينمو بوتيرة مخيفة بفضل التقدم السريع في نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية، وهو المتعلق بـ “التزييف العميق” و المحتوى المُولّد بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي من صور، أصوات، وفيديوهات. من منظور هندسي وتقني، شهدنا قفزات هائلة في قدرة الذكاء الاصطناعي على إنشاء محتوى يبدو واقعياً ومقنعاً لدرجة مذهلة.

 

أصبحت النماذج قادرة على محاكاة أصوات الأشخاص بدقة، إنشاء صور لوجوه غير موجودة، أو تركيب وجه شخص على جسد آخر في مقطع فيديو بسلاسة تجعل من الصعب جداً على العين والأذن البشرية غير المدربة اكتشاف أنها مُصطنعة وليست حقيقية.

 

التحدي الأخلاقي الذي يطرحه هذا التطور جسيم ومدمر بشكل خاص عندما يدخل إلى ساحة الأخبار والمعلومات. تخيل انتشار فيديو “إخباري” مفبرك تماماً لشخصية عامة مهمة تقول أو تفعل شيئاً لم يحدث قط، أو تقرير إخباري كامل كُتب بواسطة الذكاء الاصطناعي يتضمن معلومات مضللة أو أخباراً كاذبة لكنه مصاغ بأسلوب صحفي متقن ومؤثر. هذا النوع من المحتوى لديه القدرة الخارقة على الانتشار بسرعة البرق على المنصات الرقمية، تدمير الثقة في المصادر الإخبارية التقليدية، وتضليل وتشكيل الرأي العام بشكل خطير وغير مسبوق.

 

دور “المهندسين و الإعلاميين” في مواجهة هذا التحدي ذو شقين أساسيين ومسؤولية أخلاقية مضاعفة: الشق الأول والأكثر إلحاحاً – وهو مسؤولية أخلاقية واضحة وغير قابلة للنقاش – يكمن في الامتناع التام عن تطوير أو المساهمة في تطوير أدوات التزييف والمحتوى المُولّد لأغراض خبيثة، مضللة، أو تضر بالجمهور في سياق الأخبار والمعلومات. هذا خط أحمر يجب على كل من يعمل في هذا المجال، من مهندسين وإعلاميين، الالتزام به.

 

الشق الثاني، والأكثر أهمية وإيجابية في المعركة ضد التضليل، هو استخدام نفس المعرفة والمهارات التقنية المتقدمة التي نمتلكها كمهندسين لتطوير أدوات قوية وفعالة للكشف عن المحتوى المُزيّف والمُولّد بالذكاء الاصطناعي. بناء أنظمة قادرة على تحليل البيانات الوصفية للملفات ، البحث عن تناقضات بصرية أو سمعية دقيقة لا يلاحظها البشر بسهولة، أو حتى استخدام نماذج تعلم الآلة المتخصصة لتحديد “بصمات” خوارزميات التوليد المعروفة هو خط دفاع تقني أساسي لا غنى عنه لغرف الأخبار الرقمية في المستقبل.

 

وفي المقابل، تقع على عاتق الإعلامي والصحفي مسؤولية أخلاقية ومهنية لا تقل أهمية في التحقق الدقيق والشامل من المصادر والمعلومات قبل النشر، عدم التسرع في تداول المحتوى المثير للشكوك، واستخدام الأدوات التقنية المتاحة للكشف عن التزييف التي يوفرها لهم المهندسون.

 

التعاون الوثيق والمستمر بين المهندسين الذين يطورون أدوات الكشف والإعلاميين الذين هم خط الدفاع الأول في النشر والتحقق هو حجر الزاوية في بناء بيئة إعلامية رقمية أكثر أماناً وجدارة بالثقة في عصر التزييف العميق. يجب أن يكون هناك حوار وتدريب متبادل مستمر لضمان أن كلاً من الجانب التقني والجانب التحريري على دراية كاملة بأحدث التهديدات وأفضل سبل المواجهة التقنية والمهنية لها.

انتظرونا في الجزء “الثاني و الثالث”

Share This Article
- Advertisement -